قال تعالى :
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ) (الأعراف/146) ، وقال تعالى :
(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر/35) وقال تعالى :
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (النحل/23) ، وقال عز وجل :
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/60) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -
": يقول الله تعالى : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي " (رواه مسلم) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :
" لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرًا" (رواه البخاري) .
وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"
لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب
أن يكون ثوبه حسنـًا ونعله حسنـًا ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ،
الكبر بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس" (رواه مسلم) .
ومعنى بطر الحق :
الاستنكاف عن قبوله ورده والنظر إليه بعين الاستصغار ، وذلك للترفع
والتعاظم ، ومعنى غمط الناس : إزدراؤهم واحتقارهم.
بيان ما يتكبر به : أولاً : العلم :
وما
أسرع الكبر إلى بعض العلماء فلا يلبث أن يستشعر في نفسه كمال العلم ،
فيستعظم نفسه ويحتقر الناس ويستجهلهم ويستخدم من خالطه منهم وقد يرى نفسه
عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم .
الثاني : الكبر بالحسب والنسب :
فالذي
له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب ، وإن كان أرفع منه علمـًا وعملاً
، وهذا من فعل الجاهلية كما جاء أن أبا ذرٍ - رضي الله عنه - قال : قاولت
رجلاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فعيرته بأمه فغضب - صلى الله عليه
وسلم - وقال :
" يا أبا ذر إنك امروء فيك جاهلية : هم إخوانكم "(رواه مسلم) .
الثالث : الكبر بالمال :
وذلك يجري بين الأغنياء في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيحتقر الغني الفقير ويتكبر عليه ، وكل ذلك جهل منهم بفضيلة الفقر وآفة الغنى .
الرابع : التكبر الأتباع والأنصار والعشيرة :
فهذه الأمور السابقة هي بعض ما يتكبر به الناس بعضهم على بعض ، نسأله تعالى العون بلطفه ورحمته .
واعلم
أن التكبر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ، ونظره شزرًا ، وفي أقواله حتى في
صوته ونغمته ، ويظهر في مشيته وتبختره ، وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته ،
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ، ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض ،
فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أوبين يديه ، ومنها أن لا يمشي إلا
ومعه غيره خلفه ، ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته ، والتواضع خلافه :
جاء أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيوف ، وكان يكتب فكاد السراج يطفأ
فقال الضيف : أقوم إلى السراج فأصلحه ؟ فقال : ليس من كرم الرجل أن يستخدم
ضيفه ، قال : أفأنبه الغلام ؟ فقال : هي أول نومة نامها ، فقام وملأ
المصباح زيتـًا فقال الضيف : قمت أنت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ذهبت وأنا
عمر ، ورجعت وأنا عمر ، ما نقص مني شيء ، وخير الناس من كان عند الله
متواضعـًا .
وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يقتدى به .
قال
ابن أبي سلمة : قلت لأبي سعيد الخدري : ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس
والمشرب والمركب والمطعم ؟ فقال : يا ابن أخي ، كل لله واشرب لله والبس لله
، وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهات أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف ،
وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
بيته ، كان يحلب الشاة ، ويخصف النعل، ويرقع الثوب ، ويأكل مع خادمه ،
ويشتري الشيء من السوق لا يمنعه الحياء أن يعلق الإناء بيده ، ويصافح الغني
والفقير ، ويسلم مبتدئـًا على كل من استقبله من صغير أو كبير ، ويجيب إذا
دُعيَ ولا يحقر ما دُعيَ إليه ، لين الخلق ، جميل المعاشرة ، طليق الوجه ،
شديدًا في غير عنف ، متواضعـًا في غير مذلة ، جوادًا من غير سرف ، رقيق
القلب ، زادت عائشة - رضي الله عنها - وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم
يمتلئ قط شبعـًا ، ولم يبث إلى أحد شكوى ، وكان يقول : " البذاذة من
الإيمان "(رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم ، وصححه الألباني) .
فقال
هارون : سألت عن معنى البذاذة فقال : هو الدون من اللباس ، فمن طلب التواضع
فليقتد به - صلى الله عليه وسلم - ومن لم يرض لنفسه بذلك فما أشد جهله ،
فلقد كان - صلى الله عليه وسلم - أعظم خلق الله في الدنيا والدين ، فلا عز
ولا رفعة إلا في الاقتداء به .
قال كعب : ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجته في الآخرة .
الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع :
اعلم أن الكبر من المهلكات ، وإزالته فرض عين ، ولا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة ، وفي معالجته مقامان :
أحدهما : قطع شجرته من مغرسها في القلب .
الثاني : دفع العرض منه بالأسباب التي قد يتكبر بها .
المقام الأول : في استئصال أصله ، وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما إن شاء الله تعالى .
أما
العلمي : فهو أن يعرف نفسه ويعرف صفات ربه تبارك وتعالى ، ويكفيه ذلك في
إزالة الكبر ، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه لا يليق به إلا
التواضع ، وإذا علم صفات ربه عز وجل علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا
لله عز وجل .
المقام الثاني : يدفع العارض منه بالأسباب التي ذكرناها ، فمن تكبر بنسبه فليداو قلبه
بمعرفة أن هذا جهل من حيث أنه تعزز بكمال غيره ، ولذلك قال الشاعر :
لَئِنْ فَخَرْتَ بَآبَاءٍ ذَوي نَسَبٍ لَقَدْ صَدَقْتَ وَلَكَنِ بِئْسَ مَا وَلَدُوا
ومن
كان خسيسـًا فمن أين يجبر خسته ؟ بكمال غيره ، وبمعرفة نسبه الحقيقي -
أعني أباه وجده - فإن أباه القريب وجده البعيد تراب ، ولقد عرَّف الله
تعالى نسبه فقال :
(وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (السجدة/7 ،
.
أما
التكبر بالغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر
بالمناصب والولايات فكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان ، وهذا أقبح
أنواع الكبر ، فلو ذهب ماله أو احترقت داره لعاد ذليلاً ، وكم من اليهود من
يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل فأفٍ لشرف يسبقه به يهودي أو يأخذه
سارق في لحظة فيعود ذليلاً مفلسـًا .
أما التكبر بالعلم والعبادة وهو أعظم الآفات فعلاجه بأمرين :
أحدهما
: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا
يحتمل عُشْرُهُ من العالم ، فإن عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش
وخطره أعظم .
ثانيهمـا : أن يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل
وحده ، وأنه إذا تكبر صار عند الله ممقوتـًا بغيضـًا ، فهذا مما يزيل
التكبر ويبعث على التواضع .